إهداء ...
إلى روح أمي الغالية ...
إلى صديقاتي رفيقات عمري ...
إلى كل إنسان يستطيع أن يرسم البسمة على وجه أخيه الإنسان ..
كل منا يملك مفاتيح .. لا حقيبة لإمرأة دون مفاتيح .. و لا محفظة لرجل دون مفاتيح .. بالطبع لا أقصد تلك المفاتيح التي هي سر خزينتك ... أو تلك التي تخص باب غرفتك أو حتى سيارتك .. لكني أعني مفاتيح آخرى .. هنا ستجد مفاتيح أعمق و أنفع .. مفاتيح خاصة !
الفصل الأول :
حشد كبير من الشباب و الفتيات تتراوح أعمارهم ما بين الثامنة عشر و أوائل العشرينات و ضوضاء شديدة تصدر من أحاديثهم المختلفة ؛ وقفوا يتبادلون أطراف الحديث عن مواضيع شتى بتلك الساحة الواسعة التي تقع أمام مجمع الكليات بجامعة الإسكندرية ، ارتسمت مشاعر شتى على وجوههم ما بين سعادة لبدء عام دراسي جديد من إسبوع مضى لكنها بالطبع ليست سعادة ناتجة عن فرحهم بالدراسة بل فرحة ناتجة عن رؤيتهم لبعضهم البعض ؛ و بين مشاعر آخرى من الضيق و التبرم لمتطلبات الأساتذة الجامعيين الكثيرة و التي تؤكد لك عجزك و عدم قدرتك البشرية على مجرد الاستيعاب و كأنك شخصاً جاهل لم تدرس من قبل بالمدارس الحكومية ، و بكافيتريا كلية الآداب تلك الكلية الجميلة التي تخرج فيها طه حسين و تخرج منها أنيس منصور ؛ التي يلتحق بها البعض على أمل أن يكون واحداً من هؤلاء العظام ، لكن دوام الحال من المحال حيث أصبحت الكلية شيئاً آخر .
زفرت أميرة أنفاسها بقوة تعبر عن ضيقها الشديد واضعة بعض أكواب الكوكا و الساندويتشات على تلك الطاولة التي توسطت الكافيتريا ثم جلست قائلة بعصبيتها المضحكة و لكنتها الأجنبية بالرغم من كونها مصرية إبنة مصري :
_ سيتامبوسيبل " مستحيل بالفرنسية " بجد كدة أوفر " كتير بالإنجليزية " خلاص زهقت و الله .
فنظرت لها سالي ضاحكة بينما ردت نهلة في هدوء :
_ و إيه الجديد يا مرمر ، ما مصر كلها زهقانة .
_ لا مانا مش زهقانة من الأسعار اللي حتولع فينا كمان شوية و لا من زحمة المواصلات و لا من الفاكهة المتهرمنة ، أنا زهقت من الدكاترة خلاص ، مش عارفة بس إيه اللي دخلنا قسم الإنجليش ده ؟!
ضحكت نهلة واضعة إصبعاً فوق فمها ثم قالت لها بصوت خافت :
_ بس هش حاسبي لأحسن الحكومة تسمعك .
ضحكت سالي بينما أطرقت أميرة رأسها خجلاً فابتسمت سالي بخبث لأنها تدرك مغزى حديث نهلة فتساءلت بخبث واضح :
_ صحيح مش ناوية تكلمي حد من الحكومة النهاردة يا مرمر قصدي الشرطة يعني ؟
ضحكت نهلة بينما وقفت أميرة برشاقتها المعتادة قائلة في غيظ مفتعل :
_ و الله لأتكلم و أغيظكوا ، إشبعوا بالأكل لوحدكم و أنا حروح أكلم محمد .
و سارت بعيداً عنهما بخفة لتحدث خطيبها و إبن عمها الذي يعمل ظابط بالشرطة غير عابئة بنظرات الشباب إليها التي اعتادت عليها لجمالها الهاديء الملائكي الذي يشعرك بالورع و التقوى خاصة في جلبابها الفضفاض و حجابها الرقيق ، بينما ضحكت سالي قائلة لنهلة :
_ يلا ناكل .
ابتسمت نهلة وقالت :
_ يلا عشان لو استنينا حنقعد سنة .
و أثناء تناول الطعام تصاعدت أغنية حديثة صاخبة فقالت نهلة :
_ نفسي أسمع حاجة قديمة بدل الوش ده .
فأجابتها سالي :
_ و أنا كمان ، عايزة أسمع فيروز .
ابتسمت نهلة ثم قالت كمن تذكر شيئاً لتوه :
_ على فكرة يا سالي عايزين نبيض المحاضرات و نقسمهم بينا عشان نديهم لنهى .
_ أوكي يا نهلة ، صحيح مفيش أخبار عن مامتها ؟
_ رجعوا امبارح من المستشفى و مامتها حتكمل علاجها ف البيت .
_ ربنا يشفيها يا رب ، بصراحة نهى تعبت معاها أوي بس يا رب يجي بفايدة .
_ يا رب .
و فجأة تصاعدت أغنية أعطني الناي لفيروز فسعدت سالي كثيرا بينما شردت نهلة تتأمل أميرة و همساتها بهاتفها الخلوي بايتسامة هادئة متأملة .
وقفت نهى أمام خزانة ملابسها لتخرج ملابسها الصيفية و تستبدلها بملابسها الشتوية شاعرة بكم من اليأس و الحزن لم تشعر به من قبل ؛ و تعجبت من ذلك الشعور الذي انتبابها فجأة بأنه لا فائدة من وضع ملابس الشتاء بخزانتها لأنها عن قريب ستستبدلهم بملابس حداد سوداء حيث مرضت والدتها من قبل كثيراً ؛ لكن هذه المرة غير كل مرة ، و بالرغم من طاقة الأمل و ابتسامتها التي توزعها على كل ممن حولها يومياً منذ مرضت والدتها أي من شهر تقريباً إلا انها تسمح لنفسها أحياناً بالبكاء في غرفتها أو شرفتها داعية الله أن يريح والدتها من المرض و الألم إما بالشفاء أو الوفاة ، نعم الوفاة ! فهي يمكن أن تتحمل فراق أمها لكنها لايمكن أن تتحمل أبداً ألمها و عذابها ، و فجأة أفاقت من شرودها على جرس الهاتف فأسرعت لترد ممسكة بيديها بعض الثياب التي قامت بتحضريها لتأخذ حماماً دافئاً قبل النوم و اتجهت إلى التليفون مارة بالصالة التي تنام والدتها على أرضها حيث أنها لا تستطيع النوم إلا على الأراض و بات نوم الفراش مستحيلاً ، رفعتنهى سماعة الهاتف لتجد صوت نهلة الحنون :
_ نهى .. إزيك عاملة إيه ؟
_ الحمد لله يا نهلة و إنتي ؟
_ تمام يا حبيبتي ، مامتك عاملة إيه ؟
_ الحمد لله
لم ترتح نهلة لرنة صوت صديقتها فسألتها بحنان :
_ مالك يا نهى ؟ هي لسة تعبانة ؟
أمسكت جميلة دموعها و قالت بصبر :
_ حاسة إن دي النهاية يا نهلة مش عارفة ليه ؟ !
_ حرام عليكِ يا شيخة تقولي حاجة من دي ، إن شاء الله حتكون كويسة و الله .
_ إن شاء الله .
_ جاية بكرة ؟
_ آه بس مش حقعد كتير ، حاخد المحاضرات منكم و أمشي .
_ إن شاء الله .
أنهت نهى المكالمة فنظرت لساعة الحائط فوجدتها الحادية عشر و النصف فوقفت مسرعة تجاه الحمام حتى تنهيه بسرعة لتنام و لتستطيع الاستيقاظ باكراً ، و عند مرورها بالصالة مرة آخرى وجدت أمها جالسة فعرفت أنها لا تستطيع أن تنام فسألتها :
_ أحضرلك جلسة نفس صناعي ؟
فأومأت أمها برأسها رفضاً فزمت نهى شفتيها و أحضرت بعض الماء لأمها و ناولتها إياه ثم أمسكت بكوب المياه و قدح اللبن الذي تناولته أمها لتوها و اتجهت إلى المطيخ لتضعهم ثم دلفت إلى الحمام لتأخذ حمامها .
بعد نصف ساعة قضتها نهى بالحمام شاردة بأفكارها سمعت صوتاً كصوت أبيها يلومها على تأخرها على أمها ، هي واثقة أن ذلك من وحي الخيال لأن أبيها نائما يتناول أرزا بلبن مع الملائكة ، و أخيها بالطابق الأعلى بمنزلهم برفقة إبنه و زوجته ، إذن هذا من وحي خيالها فقط ، لكنها قررت أن تخرج من الحمام فارتدت ملابسها على عجل و لا تعرف سر خوفها ، و خرجت بسرعة لتسير باتجاه الصالة حيث وجدت أمها نائمة كالملاك فحمدت الله أنه رزق أمها أخيراَ بعض النوم ، لكن أمها لا تستطيع أن تنام على ظهرها لأنها بذلك لن تستطيع أن تتنفس إذن فكيف هي نائمة هكذا بمنتهى البساطة ؟ ! اقتربت جميلة قليلا من جسد أمها فوجدت عينيها مرفوعتان لأعلى تحدقان في اللا شيء أو إلى اتجاه الحمام حيث كانت جميلة منذ قليل ، انحنت قليلا لأسفل و نادت بصوت خافت تحول إلى صرخة :
_ ماما .. ماما .. مــــــــــــــــــــامــــــــــــــــا
فاستيقظ والدها متسائلاً :
_ في إيه يا نهى ؟
فقالت بألم و صرخة مكتومة :
_ ماما .. ماما ماتت يا بابا ... ماما ماتت يا بابا .....
يتبع بالفصل الثاني